غزة وحربها الكاشفة

مقالات 11:30 29.02.2024

من أيام غزة الأخيرة تعلمت الكثير. تعلمت الكثير عن شعبها وعن شعوب أخرى. كشفت لنا وسوف تكشف لأجيال عديدة من بعدنا حقيقة أهل الكيان الإسرائيلى. عبرت لى من جديد وبالوضوح الشديد وبكل الصخب الممكن والعنف المتوحش عن نوايا هذا الكيان، بل وعن أصله وفصله وعن أشباهه وفروعه ومشتقاته. وفرت لى مزيدا من الدلائل والمؤشرات على طبيعة وتفاصيل عالم جديد يتشكل. لخصت لى وفى كلمات قليلة وسلوكيات معدودة خريطة جديدة لعناصر القوة فى الشرق الأوسط وعناصر الضعف الموروثة والمستجدة 

أعادت لى نتفا من ذاكرتى كادت تضيع وتختفى، عدت أتذكر ما صنعته وخلفته ألمانيا من خلال دورها كدولة استعمار حين تفننت فى تعذيب وإبادة شعب إفريقى يسكن إقليما فى أقصى جنوب غرب القارة السمراء، ثم أتذكر ما فعله المهاجرون البيض من أوروبا وبخاصة إنجلترا بالشعوب الأصلية فى القارتين الأمريكيتين. علمتنى عن تاريخ اليابان وكفاح الشعوب ما لم أكن أعلم. لم أكن أعلم مثلا أن المقاومة المسلحة على طريقة الانتحار الجماعى فى وجه المحتل أى الكاميكازى تعنى فى اللغة اليابانية الريح المقدسة، فى إشارة إلى كفاح اليابانيين للتصدى للغزو المغولى القادم من القارة نحوها وعبر البحر فى القرن الثالث عشر الميلادى.

نعم، عرفت أكثر مما كنت أعرف وتعلمت ما لم أكن أعلم وهو بين كثير مما كشف عنه حتى الآن كفاح يشنه فلسطينيون فى مواجهة عملية إبادة تدعمها وتشترك فى تنفيذها قوى عظمى. أكثر هذه القوى العظمى لا تنفذ ما وعدت به مقابل الاعتراف بها قوى عظمى. كانت جميعها موضع اختبار خلال أزمة غزة. اثنتان، وهما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تصرفتا خلال الأزمة تصرفات تؤكد حال الإدانة المطلقة لهما بعد سنوات وعقود من ممارسة نفاق المعايير المزدوجة. كلتاهما مارستا بنفسيهما أو شجعتا حلفاءهما على ممارسة الإبادة ضد شعوب فى عالم الجنوب.

هاتان القوتان، سواء تحدثنا عن مراحل صعودهما أو مرحلة انحدارهما، استمرت تلاحقهما سبة العنصرية ونتائج تصرفاتهما المتناقضة مع التزامهما احترام قواعد عمل النظام الدولى القائم ومؤسساته الحقوقية والتنموية والسياسية. المثير أيضا والمستهجن بشدة هو السياسة التى انتهجتها دول أوروبية لمدة طالت أو قصرت، سياسة اعتمدت النفاق وازدواج المعايير مختلطة بعنصرية واضحة تجاه أهل غزة والعرب عموما.

ما تزال أزمة غزة تثمر أوضاعا جديدة وتفرض سلوكيات بعينها ليس فقط على الشرق الأوسط ولكن أيضا على أقاليم أخرى ومنها أوروبا وأمريكا اللاتينية. من هذه السلوكيات ما يمس نظام ومؤسسات القمة الدولية. أحاول فى السطور القليلة التالية عرض نماذج من هذه الأوضاع والسلوكيات أتصور أنها تسهم حاليا فى رسم أو صنع بعض معالم دورة جديدة فى سلسلة دورات النظام الدولى والنظام العربى وفى الشرق الأوسط بشكل عام.

أولا: خلصنا من متابعة مضنية لسياسة أمريكا الخارجية فى هذه الظروف الصعبة إلى تقرير أنها سياسة أصابها الارتباك الشديد. قلت فى مناسبة قريبة أن أفضل تجسيد أو تصوير لها هو فيديوهات صحفية تتابع الرئيس الأمريكى الحالى. تصوره صاعدا بصعوبة على سلم طائرته ذى الدرجات العديدة، أو تصوره يمشى منفعلا أو مترنحا بالسعادة وبغيرها على مسرح مزدحم برجال ونساء الخدمة السرية، أو تصوره يلقى بكلمة سياسية شديدة الأهمية وإن سريعة وقصيرة. تصوره فى الأولى مترددا فى اختيار الدرجة اللازمة ليصعد، وتصوره فى الثانية ضائعا فقد نسى موقع الباب الذى دخل منه، وتصوره فى الثالثة متلعثما أو واصفا رئيس دولة حليفة بما ليس فيه أو بما لا يناسبه. تصوره أيضا فى هذه الثالثة غير مصدق وخائب الأمل، فلأول مرة وعلى يديه تثبت الأقلية العربية صلاحيتها وقدرتها على التأثير فى الانتخابات السياسية الأمريكية. هكذا بدت لنا السياسة الخارجية الأمريكية خلال الأزمة الراهنة.

أما الأسباب ففى رأيى تنحصر فى حقيقة أعتقد أنها صارت واضحة للمتعاملين مع السياسة الخارجية الأمريكية. هذه السياسة شاخت. استمدت قوتها فى أوجها من دولة فتية، مؤسساتها متوافقة، قياداتها منتصرة ومتجددة، ومخزن نخبتها عامر بالمبدعين والمجددين. تغيرت أمريكا فانحدرت، أو لعلها شاخت وهى على حالها بينما العالم يتغير من حولها. بالفعل كانت أوكرانيا، حربا أديرت على نمط وتجربة حرب كوريا ثم كانت غزة، أزمة أدارت جانبا هاما منها أدوات السوشيال ميديا بجبروتها، أزمة أديرت فى خضم صحوة مبهرة يشهدها عالم الجنوب ولم تكن أمريكا مستعدة لها، أقصد هذه الصحوة.

ثانيا: لا أذكر أننى كنت يوما فى حياتى الطويلة شاهدا على دولة صغيرة فعلت بنفسها وبالعالم كله ما فعلت إسرائيل خلال مائة وخمسة وأربعين يوما. حاولت إسرائيل ومن خلال هذه الحرب أن تقول للعالم إنها فوق الجميع. ألقت عليهم، عربا ومسلمين وغرباء، درسا فى مادة العلاقات الدولية الحديثة ودرسا آخر فى مادة توازن القوة العالمى، ودرسا ثالثا فى مادة الأديان المقارنة وبخاصة ما تعلق بأسطورة الشعوب المختارة، ودرسا رابعا فى مادة الابتزاز المتبادل بين دولة عظمى ودولة صغرى. فرضت من جديد «القضية اليهودية» ونجحت فى هذا الفرض.

طرحت السؤال الباحث منذ زمن عن إجابة مقنعة، سألت بين ما سألت «من يستخدم من: الأمريكى يستخدم الإسرائيلى أم العكس؟». نعرف أن إسرائيل أبدعت فى فن الضغط على أمريكا بأمريكا ذاتها كما سبق وفعلت مع بريطانيا العظمى حتى قبل نشأتها. سمعنا روايات تحكى عن حقيقة ما حدث فى اليوم السابع من شهر أكتوبر، من الروايات رواية أن واشيا أو خبيرا أو ناصحا أبلغ إسرائيل قبل السابع بشهور عن خطة رسمتها المقاومة لغزو مستوطنات على غلافها، فاستعدت الحكومة لليوم التالى ليوم الغزو وإن أظهرت أنها لم تستعد للسابع نفسه وفى وقته. روايات أخرى تحدثت عن اطمئنان كامل وثقة تامة فى أن دول الجوار لن تتدخل عسكريا احتراما لاتفاقيات وقعتها قبل الغزو بكثير جدا أو بقليل جدا.

منذ نشأتها وقفت إسرائيل مرات عديدة ضد العالم، آخرها الإعلان الصريح من موقع فريد للقوة، موقع التهديد بإبادة الفلسطينيين جميعا بالتهجير أو القتل، عن قرار رسمى وشعبى برفض حل الدولتين وسيلة لتحقيق السلام. لن تكون هناك دولة فلسطينية طالما بقيت هناك دولة لبنى إسرائيل على الأرض الموعودة وليذهب العالم إلى الجحيم فجميعه، حسب أصول العقيدة الدينية، معاد للسامية وفى باطنه عداء مستتر لدولة إسرائيل. بالفعل كانت انتفاضة غزة هذه المرة كاشفة لمدى الكره الذى تحمله حكومة إسرائيل وبعض شعبها لغير اليهود، كاشفة أيضا للصعوبة البالغة التى سوف تواجهها الدبلوماسية العالمية فى الشهور وربما السنوات القادمة فى كل محاولات البحث عن حل. نعرف على الأقل أن جميع القادة العسكريين والمدنيين المسئولين عن إدارة هذه الحرب أعلنوا عشرات المرات أن هذه الحرب سوف تستمر لأعوام وليس لشهور. عدد غير قليل من المراقبين والخبراء الذين التقيت بهم يعتقدون أنه من الواضح تماما من هذه التصريحات وغيرها من السلوكيات أن الخطة كما تنفذ لم ترسم على عجل عشية السابع أو الثامن من أكتوبر، بل أخذت زمنا لتتبلور وتستعد للتنفيذ.

 ثالثا: لم أرتح كثيرا للموقف البارد نسبيا لكل من روسيا والصين من الحرب ضد الفلسطينيين، ولكنى أتفهمه. بالموقف البارد أقصد الدعم السياسى والإعلامى الروسى والصينى للفلسطينيين بدون صخب أو تعهدات والتزامات عسكرية. موقف فى جوهره لا يبتعد كثيرا عن الموقف الرسمى العربى الأمر الذى يجعلنى أقترب من تفهم الموقفين الروسى والصينى. بمعنى آخر أدرك تماما أنه فى الحالتين تتعرض الحكومات لضغط شعبى كبير وهى تعلم تماما أن التدخل بشكل آخر غير الدعم المعنوى كفيل بأن يتسبب فى رد فعل عنيف من جانب القوى الغربية وبخاصة الولايات المتحدة. سمعت كثيرا من المقارنات والمشابهات بين ما يسمى بالحالة الأوكرانية والحالة الإسرائيلية. فى إحداها يشبهون مكانة أوكرانيا لدى روسيا بمكانة إسرائيل لدى الولايات المتحدة. وفى الحالتين يمكن للطرف الأعظم التدخل بكل العنف الممكن والمال اللازم لحماية الطرف الأصغر وهو بالضبط ما حدث فى الحالة الأوكرانية واستعد ليحدث فى الحالة الفلسطينية بتحريك أمريكا لعديد الأساطيل الغربية إلى المنطقة.

بمرور الوقت واستمرار حرب الإبادة بلا هوادة كان لا بد لكل من الصين وروسيا الانتباه إلى أن استراتيجية الاعتماد على مكاسب للصين تتحصل عليها من خسائر لأمريكا من وراء استمرارها في دعم حرب الإبادة الناشبة ضد الفلسطينيين لم يعد مجزيا. تقارير وراء تقارير راحت تؤكد الاتساع المتوالى للخرق فى نسيج العلاقات الأمريكية بدول عالم الجنوب نتيجة موقفها الداعم لإسرائيل.

نقرأ الآن عن أسطول صينى يحمل رقم 46 خصصته بكين على ضوء تمدد حرب غزة نحو جنوب البحر الأحمر. فى الوقت نفسه وربما لأسباب أكثر تنوعا شكلت موسكو جيشا روسيا يتخصص فى شئون إفريقيا المرشحة لعدم استقرار وغليان أشد ضد الاستعمار الغربى المستحكم فى القارة. من جانب آخر صارت اتفاقية تركيا مع أرض الصومال تشكل مادة استراتيجية يشترك فى الاهتمام بها روسيا والصين وحلف الأطلسى بالإضافة إلى اهتمام خجول ولكن متصاعد من جانب دول عربية متشاطئة للبحر الأحمر أو قريبة منه ومتوجسة شرا. من جانب رابع، أتوقع مزيدا من النمو والفعالية لمشروع إقامة ممر برى يبدأ فى الهند وينتهى فى ميناء إسرائيلى، وإن صح توقعى هذا فسوف يتبعه بالتأكيد أو فى الغالب إقامة سلسلة من القواعد العسكرية لحمايته، ولن أبالغ إن توقعت حلفا عسكريا يجمع كافة الدول الواقعة على الممر والمستفيدة منه.

تلك كانت نذرا قليلة من كثير من علامات حاضر دولى وشرق أوسطى وآسيوى وإفريقى، حاضر ممتد فى المستقبل، ساهمت فى صنعه وتهذيبه خطة حرب إبادة إسرائيلية بدعم أمريكى.

جميل مطر  

كاتب ومحلل سياسي 

خبير عسكري : إذا توقفت عملية ترسيم الحدود...

أحدث الأخبار

وفاة إبراهيم رئيسي: مجرد حادث أم مؤامرة؟ - تحليلات
17:37 20.05.2024
خبير سياسي : السلطات الإيرانية تتحمل مسؤولية وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي
15:19 20.05.2024
من هو محمد مخبر رئيس إيران المؤقت؟
15:00 20.05.2024
إيران تعلن موعد جنازة الرئيس الإيراني
14:33 20.05.2024
ما هي التغييرات السياسية المنتظرة علي سياسة الخارجية لطهران؟
14:15 20.05.2024
ماذا ينتظر إيران بعد رئيسي؟
12:12 20.05.2024
السفير التركي بالقاهرة يدعو إلي تنشيط العلاقات الرياضية بين تركيا ومصر
11:30 20.05.2024
أذربيجان تعزي إيران في وفاة الرئيس الإيراني
11:04 20.05.2024
محمد مخبر الرئيس الإيراني بعد وفاة رئيسي
11:00 20.05.2024
تأجيل زيارة ولي العهد السعودي إلى اليابان بسبب حالة الملك سلمان الصحية
10:45 20.05.2024
مانشستر سيتي يتوج بلقب البريمرليغ للعام الرابع على التوالي
10:30 20.05.2024
بعد مقتل رئيسي... انعقاد جلسة طارئة للحكومة الإيرانية
09:54 20.05.2024
الزمالك يهزم نهضة بركان بهدف ويتوج بطلاً للكونفدرالية
09:30 20.05.2024
كيف يتعامل الدستور الإيراني مع حالة غياب رئيس الجمهورية؟
09:15 20.05.2024
وفاة الرئيس الإيراني بحادث تحطم مروحية
09:00 20.05.2024
لافروف يكشف تفاصيل المفاوضات بين بوتين وشي جين بينج
19:00 19.05.2024
حمدوك وعبد الواحد نور يوقعان إعلاناً يدعو لوقف الحرب في السودان
18:00 19.05.2024
حالة رئيس الوزراء السلوفاكي تقترب من التوقعات الإيجابية
17:30 19.05.2024
تواصل أعمال الشغب في كاليدونيا الجديدة
17:00 19.05.2024
انسحاب البعثة العسكرية الأوروبية من مالي
16:00 19.05.2024
النمسا ستستأنف تمويل الأونروا
15:00 19.05.2024
الحزب الشيوعي الفيتنامي يختار تاو لام ليصبح رئيسا جديدا للبلاد
14:00 19.05.2024
الأونروا عدم فتح المعابر ينذر باستمرار الظروف الكارثية في غزة
13:00 19.05.2024
مئات الآلاف أجبروا على الفرار من رفح
12:00 19.05.2024
عشرات القتلى في فيضانات جديدة ضربت أفغانستان
11:00 19.05.2024
4.4 مليار دولار فائض الميزان التجاري لسلطنة عمان بنهاية فبراير
10:00 19.05.2024
إسطنبول تستضيف قمة تركية عربية اقتصادية في يونيو
09:00 19.05.2024
كتائب القسام تعلن قتلها 15 جندياً إسرائيلياً شرق رفح
15:00 18.05.2024
جنوب إفريقيا نرفض الاتهامات الإسرائيلية للمؤسسات الأممية
14:00 18.05.2024
أرمينيا تؤكد التزامها بالسلام الدائم والمستقر في القوقاز
13:00 18.05.2024
تشاد تحديات عديدة أمام ديبي بعد انتخابه رئيسا للبلاد
12:00 18.05.2024
بوتين يسعى إلى تعاون أكبر في مجال الطاقة مع الصين
11:00 18.05.2024
المركزي التركي يتوقع تراجع التضخم وسعر الصرف
10:00 18.05.2024
أردوغان يصدر عفواً صحياً عن جنرالات انقلاب 28 فبراير
09:00 18.05.2024
نضال سليم : سبب مشكلة الجفاف العالمية هي زيادة الطلب علي المياه
17:33 17.05.2024
ماذا يحدث في جنوب القوقاز؟
17:00 17.05.2024
خبير سياسي : الاتحاد الأوروبي يسعي إلي السيطرة علي المنطقة
16:00 17.05.2024
خبير سياسي : "الغرب يستخدم أرمينيا ضد روسيا"
13:00 17.05.2024
رئيس الوزراء السنغالي ينتقد تواجد القواعد العسكرية في بلاده
12:00 17.05.2024
كاليدونيا الجديدة... طوارئ ومطالب بالاستقلال عن فرنسا
11:46 17.05.2024
جميع الأخبار