التنوير اليهودي.. وميلاد الصهيونية

مقالات 11:30 25.02.2024

رغم أن التاريخ السياسى لإسرائيل ــ بعيدا عن الدعايات الصهيونية ــ لا يمكن أن يذهب إلى أبعد من نهاية القرن التاسع عشر على يد الحركة الصهيونية، إلا أنه وحتى نفهم السياق الذى جاءت فيه وبه الصهيونية، لابد وأن نعرج أولا على حركة التنوير اليهودية التى عرفت باسم «الهاسكالا» وهى كلمة عبرية يمكن أن تكون الترجمة الأقرب لها بالعربية هى «الحكمة»، هذه الحركة انتشرت بالأساس بين يهود وسط وشرق أوروبا المعرفين بالأشكيناز، وإن كانت لها تأثيراتها بل ومساهمتها العميقة على وبين يهود غرب أوروبا، بالإضافة إلى يهود العالمين الإسلامى والعربى والذين يعرفون أيضا ــ بشكل تعوزه الدقة ــ باسم السفارديم!

ولمعرفة السياق الذى ظهرت فيه «الهاسكالا»، فلابد أن نفهم السياق الأوسع الذى ولدت فيه، أى حركة التنوير الأوروبية والتى لها تدين القارة العجوز بالكثير من التحديث والحضارة والتقدم والتصنيع والتكنولوجيا التى تتمتع به ــ ومعها العالم الغربى ــ الآن!

      حركة التنوير الأوروبية هذه هى بالأساس حركة علمية وفكرية قامت على أكتاف العلماء والفلاسفة فى أوروبا الغربية، وتلت فورا عصر الثورة العلمية فى أوروبا التى تمردت على المصادر والطرق الدينية أو غير العلمية بشكل عام فى دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية والإنسانية، ومن ثم فإن حركة التنوير قضت على سلطة الكنيسة (الكاثوليكية بالأساس) فى احتكار عملية المعرفة والبناء عليها!

      من هنا، ومع حلول القرن السابع عشر، كانت أوروبا تتغير بشكل استثنائى عنيف وغير مسبوق بسبب هذه الحركة التنويرية التى قامت لتتمحور حول الإنسان كقيمة مستقلة وحول سعادته ورشده وعقله، معتبرة أن الحقائق المادية الملموسة فقط دون غيرها هى التى يمكن أن تسمى علما ومن ثم تقوم عليها وتستمر النهضة الأوروبية المرجوة!

      وبسبب هذه الثورة العلمية وهذه الحركة التنويرية شهدت أوروبا التطور فى مجالات العلوم والفنون والأدب والإنسانيات، وطال هذا بكل تأكيد أبعادا سياسية واقتصادية فى القارة بدءا من الثورة الصناعية وعملية الانتقال من الحياة القائمة على المجتمعات الإقطاعية أو شبه الإقطاعية إلى المجتمعات الحضرية حيث سيادة قيم الليبرالية والفردانية والديموقراطية والعلمانية على قيم العصور الوسطى البالية، ليشكل ذلك ميلادا جديدا للقارة العجوز سيجعلها فى غضون عقود قليلة سابقة وسائدة على غيرها من الحضارات القديمة!

      فى هذه الأثناء كان اليهود فى أوروبا متوزعين بين ثلاث فئات رئيسية، فئة هاجرت من إسبانيا والبرتغال واستقرت فى الإمبراطورية العثمانية وشمال إفريقيا، وفئة أخرى كانت متمركزة فى وسط وشرق أوروبا، بالإضافة إلى جماعات أخرى أقل تماسكا وجدت فى إفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية، وبعضها كان يعيش متخفيا لأسباب وظروف مختلفة بحسب البلاد التى كانوا يعيشون فيها.

      كانت الفئة الأولى أكثر انفتاحا وتعلما ومشاركة فى اللحمة الاجتماعية والاقتصادية للبلاد التى عاشوا فيها، أما الفئة الثانية فقد كانت أكثر انغلاقا وأقل ثقافة وبالتالى كانت تعيش فى عزلة عن المجتمعات المحيطة بها! وسواء كنا نتحدث عن الفئة الأولى أو الثانية بالإضافة إلى الفئات الهامشية الأخرى، فكلها كانت تتحدث لغات مختلفة ولم تكن اللغة العبرية تستخدم بشكل موسع فى الحياة اليومية، واقتصرت فى معظم الأحيان على الطقوس الدينية!

      تأثرا بعصر التنوير الأوروبى، بدأ عدد كبير من اليهود وتحديدا من الفئة الثانية تطوير حركة الهاسكالا، لتحقيق هدفين محددين؛ الأول هو قطع العزلة التى يعيشها يهود أوروبا الشرقية والوسطى عن مجتمعاتهم ومحاولة دفعهم ليكونوا جزءا من الهويات القومية بحسب الدول التى يعيشون فيها من أجل إنهاء تهميشهم التاريخى، والثانية هو إعادة الاعتبار للغة العبرية واستخدامها فى الحياة اليومية العلمانية بعيدا عن الطقوس الدينية!

      قطعا لم تكن الهاسكالا تسعى إلى إذابة الهويات اليهودية فى محيطها الاجتماعى، فقد كانت تتعامل مع اليهود واليهودية باعتبارهم عنصرا تاريخيا مميزا يجب الحفاظ عليه، لكنهم دعوا فقط إلى إنهاء هذه العزلة، ومشاركة القيم الأوروبية الحديثة المرتكنة إلى العلم والليبرالية والعلمانية، إلخ.

      رغم نجاح الحركة التنويرية اليهودية هذه فى اجتذاب الكثير من العلماء والمثقفين والفلاسفة إليها، ورغم تمكنها من إحداث ثورة كبيرة فى استخدام العبرية سواء بشكل مسموع أو مطبوع فى الحياة اليومية لليهود، ورغم أن تأثير الحركة امتد إلى يهود العالمين العربى والإسلامى، بالإضافة إلى يهود أوروبا الغربية، إلا أنها واجهت خصومة كبيرة من تيارين آخرين؛ كان التيار الأول حاخاميا، من رجال الدين الذين رفضوا تماما هذا الاتجاه العقلانى العلمانى وخشوا من أن انفتاح اليهود بهذا الشكل سيذيب هوياتهم المنفردة، قطعا فضلا عن أنهم ــ ككل رجال الدين ــ كانوا يخشون زوال قوتهم وسطوتهم! أما التيار الثانى الذى عادى التنوير اليهودى، فقد كان تيارا راديكاليا، يرفض أى ادعاءات عن تمايز الهوية اليهودية ويدعو إلى أن ينخرط اليهود بشكل تام فى مجتمعاتهم التى يعيشون فيها!

      خلقت الهاسكالا جيلا جديدا من اليهود العلمانيين الحداثيين، المتمسكين بهويتهم، ولكن ليس على أساس دينى، ولكن على أساس ثقافى وعرقى/إثنى. بعبارة أخرى، فإن الحركة أدت إلى استبدال الديانة اليهودية باعتبارها الرابط بين يهود العالم، بالثقافة اليهودية والإثنية اليهودية واعتبارهما الأسس الجديدة لما أسموه «الوحدة العالمية اليهودية»، وهو الأمر الذى تطور فى ثمانينيات القرن التاسع عشر، مفضيا إلى ظهور حركة جديدة كانت بمثابة التطور أو النتيجة للتنوير الأوروبى وهى الحركة الصهيونية العالمية التى أدت إلى مرحلة جديدة تطالب بوطن قومى لليهود على أساس علمانى! ولكن قبل الاستفاضة بالحديث عن الحركة الصهيونية، فمن المهم التعرف ــ ولو باختصار ــ على ما يعنيه المصطلح نفسه!

      مصطلح الصهيونية هو مشتق من كلمة «صهيون» والتى فى معناها اللغوى المباشر تعنى «الحصن» لكن دلالتها أوسع من ذلك، فقد تم الإشارة إليها فى العهد القديم لتعنى أحد التلال المقدسة لمدينة القدس، ولاحقا أصبحت تشير بشكل عام إلى مدينة القدس كلها، كما تعنى أو تشير بشكل عام إلى الجنة الموعودة لليهود فى العالم الآخر!

      فى استخدامات أخرى أكثر حداثة، فإن «صهيون» يتم استخدامها بشكل عام فى الأدب العبرى، بل وحتى فى الثقافة المسيحية المحافظة فى أمريكا الشمالية للدلالة على المجتمع المثالى المنضبط الذى يعيش فيه الناس حياة روحية منضبطة تفضى بهم إلى الجنة أو الفردوس فى نهاية العالم!

      ظهرت الحركة كما أشرت فى نهاية القرن التاسع عشر باعتبارها حركة سياسية بالأساس تنادى بقيام وطن يهودى أو دولة لكل يهود العالم، تنهى حالة الشتات والانعزال والتهميش التى يرون أن اليهود قد عانوا منها على طول الزمان.

أحمد عبدربه

مدير برنامج التعاون الدبلوماسي الأمريكي الياباني

أستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر

 

 

 

 

 

خبير عسكري : إذا توقفت عملية ترسيم الحدود...

أحدث الأخبار

وفاة إبراهيم رئيسي: مجرد حادث أم مؤامرة؟ - تحليلات
17:37 20.05.2024
خبير سياسي : السلطات الإيرانية تتحمل مسؤولية وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي
15:19 20.05.2024
من هو محمد مخبر رئيس إيران المؤقت؟
15:00 20.05.2024
إيران تعلن موعد جنازة الرئيس الإيراني
14:33 20.05.2024
ما هي التغييرات السياسية المنتظرة علي سياسة الخارجية لطهران؟
14:15 20.05.2024
ماذا ينتظر إيران بعد رئيسي؟
12:12 20.05.2024
السفير التركي بالقاهرة يدعو إلي تنشيط العلاقات الرياضية بين تركيا ومصر
11:30 20.05.2024
أذربيجان تعزي إيران في وفاة الرئيس الإيراني
11:04 20.05.2024
محمد مخبر الرئيس الإيراني بعد وفاة رئيسي
11:00 20.05.2024
تأجيل زيارة ولي العهد السعودي إلى اليابان بسبب حالة الملك سلمان الصحية
10:45 20.05.2024
مانشستر سيتي يتوج بلقب البريمرليغ للعام الرابع على التوالي
10:30 20.05.2024
بعد مقتل رئيسي... انعقاد جلسة طارئة للحكومة الإيرانية
09:54 20.05.2024
الزمالك يهزم نهضة بركان بهدف ويتوج بطلاً للكونفدرالية
09:30 20.05.2024
كيف يتعامل الدستور الإيراني مع حالة غياب رئيس الجمهورية؟
09:15 20.05.2024
وفاة الرئيس الإيراني بحادث تحطم مروحية
09:00 20.05.2024
لافروف يكشف تفاصيل المفاوضات بين بوتين وشي جين بينج
19:00 19.05.2024
حمدوك وعبد الواحد نور يوقعان إعلاناً يدعو لوقف الحرب في السودان
18:00 19.05.2024
حالة رئيس الوزراء السلوفاكي تقترب من التوقعات الإيجابية
17:30 19.05.2024
تواصل أعمال الشغب في كاليدونيا الجديدة
17:00 19.05.2024
انسحاب البعثة العسكرية الأوروبية من مالي
16:00 19.05.2024
النمسا ستستأنف تمويل الأونروا
15:00 19.05.2024
الحزب الشيوعي الفيتنامي يختار تاو لام ليصبح رئيسا جديدا للبلاد
14:00 19.05.2024
الأونروا عدم فتح المعابر ينذر باستمرار الظروف الكارثية في غزة
13:00 19.05.2024
مئات الآلاف أجبروا على الفرار من رفح
12:00 19.05.2024
عشرات القتلى في فيضانات جديدة ضربت أفغانستان
11:00 19.05.2024
4.4 مليار دولار فائض الميزان التجاري لسلطنة عمان بنهاية فبراير
10:00 19.05.2024
إسطنبول تستضيف قمة تركية عربية اقتصادية في يونيو
09:00 19.05.2024
كتائب القسام تعلن قتلها 15 جندياً إسرائيلياً شرق رفح
15:00 18.05.2024
جنوب إفريقيا نرفض الاتهامات الإسرائيلية للمؤسسات الأممية
14:00 18.05.2024
أرمينيا تؤكد التزامها بالسلام الدائم والمستقر في القوقاز
13:00 18.05.2024
تشاد تحديات عديدة أمام ديبي بعد انتخابه رئيسا للبلاد
12:00 18.05.2024
بوتين يسعى إلى تعاون أكبر في مجال الطاقة مع الصين
11:00 18.05.2024
المركزي التركي يتوقع تراجع التضخم وسعر الصرف
10:00 18.05.2024
أردوغان يصدر عفواً صحياً عن جنرالات انقلاب 28 فبراير
09:00 18.05.2024
نضال سليم : سبب مشكلة الجفاف العالمية هي زيادة الطلب علي المياه
17:33 17.05.2024
ماذا يحدث في جنوب القوقاز؟
17:00 17.05.2024
خبير سياسي : الاتحاد الأوروبي يسعي إلي السيطرة علي المنطقة
16:00 17.05.2024
خبير سياسي : "الغرب يستخدم أرمينيا ضد روسيا"
13:00 17.05.2024
رئيس الوزراء السنغالي ينتقد تواجد القواعد العسكرية في بلاده
12:00 17.05.2024
كاليدونيا الجديدة... طوارئ ومطالب بالاستقلال عن فرنسا
11:46 17.05.2024
جميع الأخبار